هذا الكتاب الغزير التفاصيل الواسع الحجم يعتمد في مادته العلمية على عمل تاريخي سابق تحت عنوان :«التجار والعلماء ورجال الدولة الحضارمة في المحيط الهندي خلال الفترة من منتصف القرن الثامن عشر وحتى ستينات القرن العشرين» طبع في أبريل 1997، و اشتركت فيه الدكتورة فريتاج كمساهمة ومحررة مساعدة. وتم نشره بعد مدة قصيرة من نشر الكتاب الأصيل والرائد لليندا بوكسبيرجر المسمى (على حافة إمبراطورية) الذي تضمن دراسة وافية عن المجتمع الحضرمي خلال الفترة الممتدة من ثمانينات القرن التاسع عشر وحتى ثلاثينات القرن العشرين.
تعد د.فريتاج عالمة مستعربة موهوبة، أخلصت بشفافية لموضوع بحثها مستعينة بثروة هائلة من المصادر الحضرمية والبريطانية التي لم يستخدمها أحد من الباحثين قبلها، بالاضافة إلى رصيد كبير من العمل الميداني في اليمن واندونيسيا، واستقصت مختلف الوسائل التي تفاعل عبرها أفراد الشتات الحضرمي مع بلادهم الأصلية حضرموت، مثل التحويلات المالية التي كانوا يبعثونها لأهلهم في الوطن الأم والمبادرات السياسية التي كانوا يتقدمون بها، والتمهيد للأفكار والجمعيات الحديثة. إنه من المستحيل إنصاف الدراسة التي قدمتها د. فريتاج دون التوقف، ولو باختصار، عند كل فصل من فصولها. وفي الوقت نفسخه تتوجب الإشارة إلى انه لا يمكننا توقع، حتى من عالم في منزلة د. فريتاج ، تفسير الأحداث بعيون ومشاعر مراقب من أهلها (حضرموت)، فعلى سبيل المثال بدت د. فريتاج في أكثر من موقع في كتابها هذا وكأنها غير معنية بأنه كانت توجد في تلك الفترة في جنوب الجزيرة العربية دولة تحكم وأسرة حاكمة.
جانب كبير من مقدمة الكتاب كرسته الباحثة فريتاج لإثبات المحددات والتعريفات للمصطلحات الاجتماعية والتاريخية التي في ضوئها قامت بتصنيف دراستها مثل نوع الهجرة التي يمكن تكييف النمط الحضرمي من الهجرة في إطاره. وما إذا كان المصطلح العربي «إصلاح» ينطبق في المعنى مع مصطلح (العصرانية) أو (العصرية). وما إذا كانت حركة الإصلاح التي وصفتها المؤلفة برأس الحربة في يد البورجوازية التي يمكن أن تقود إلى التغريب كإصلاحات تعمل كوسيلة إلى رأسمالية على النمط الغربي أو إمبريالية عصرانية مخالفة للإسلام. ونحتاج هنا أن نوضح أنه في المجتمع الحضرمي ليس من المعقول إحداث تغيير كبير حتى تحت دعم قوة كبرى بدون الحصول على دعم النخب التقليدية. فقد كان لنزعة المؤلفة في بعض الأحيان نحو النظر إلى التطورات الحادثة بمعيار علمي الاجتماع والانثروبولجي أثره البالغ في جعلها تقدم استنتاجات وخلاصات، أقل ما يقال عنها أنها عرضة للتشكيك وعدم القبول.
في الفصل الأول تواصل المؤلفة عملية رسم مشاهد حضرموت والشتات الحضرمي في المهجر خلال القرن التاسع عشر وكأنه على ارتباط مرجعي خاص مع المحيط الهندي.
ملخصة أهم الأحداث السياسية التي جرت ،بما فيها وصول البريطانيين إلى عدن وتداعيات هذا الحدث على حضرموت ؛ خاصة بعد أن أصبحت المنطقة بأسرها تحت الحماية البريطانية.
وفي الفصل الثاني قدمت المؤلفة لمحات من سير حياة عدد من الرموز الحضرمية البارزة؛ علماء وصوفيين وتجار. واستعرضت أدوارهم باعتبار أن كلاً منهم كان بمثابة الناطق الرسمي للجماعة التي ينتمي إليها. ومدى استجابة كل منهم لتطلعات الناس ومطالبهم في ظروف حياتية أكثر أمناً وفي إدارة لبلدهم أكثر تنظيما وغيرها من الإصلاحات المطلوبة.
أما الفصل الثالث فيغطي جهود ومساعي بناء الدولة وفرص التقدم السياسي التي انفتحت لأولئك الذين امتلكوا الوسائل المادية والشعبية للحكم كولاء جماعات كبيرة من الأهالي والدعم العسكري والاستعداد لتحمل الأخطار. كما غطى كذلك العلاقات مع العثمانيين في اليمن ومع البريطانيين في عدن. وكذلك الأحداث التي توالت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
ويناقش الفصل الرابع الدور الذي قام به بعض علماء الدين المهاجرين استجابة للنداءات التي شملت العالم الإسلامي كله في تلك الفترة تنادي من أجل النهضة والإصلاح. وقد اختارت المؤلفة تسليط الضوء على دور أحد أولئك العلماء وهو السيد أبوبكر بن شهاب (1846 - 1922م) الذي استطاع خلال حياته المديدة التنقل طولاً بعرض في ربوع العالم الإسلامي وتمكن من الالتحاق بعديد من مراكزها العلمية الكبيرة.
ويناقش الفصل الخامس تأثير حركة الإصلاح على المهاجرين الحضارمة في مستوطناتهم بأرض الشتات، خصوصا جنوب شرق آسيا. وما أسفر عنها من انبثاق لطبقتي البرجوازية والمثقفين، لكل منهما مفاهيمه الخاصة عن الإصلاح التعليمي، جرى كبحها جميعاً بفعل التنازعات التنافسية المتبادلة.
يتعامل الفصل السادس مع تأثير خميرة الحراك الإصلاحي هذا في الوطن الأم ، وخاصة إصلاح نظام التعليم التقليدي الديني. وما ولّده هذا الحراك من توترات سياسية. وكيف استقوى حراك إصلاح التعليم الديني بمساعدة وسطاء مثل عائلة الكاف في تريم. وقد خصصت المؤلفة حيزاً معقولاً من هذا الفصل لشرح النشاطات الإنسانية الخيرية لهذه العائلة. كما تطرقت في هذا الفصل للمناظرات الساخنة التي جرت بين المهاجرين الحضارمة في الشتات حول طبيعة الإصلاح الذي يمكن الاضطلاع به في الوطن الأم .
كما تحدثت عن ظهور الصحافة في المهجر وفي الوطن. وفي هذا السياق أشارت المؤلفة إلى أدب الرحلات الذي ساعد على انتعاشه السيد محمد بن هاشم كتب (رحلة إلى الثغرين الشحر والمكلا). كتاب حضارمة آخرون ممن عاصروه بمن فيهم علي أحمد باكثير كتب (رحلة الأشواق القوية) صلاح عبد القادر البكري كتب (في جنوب الجزيرة العربية)الذي أعيد نشره تحت عنوان (عدن وحضرموت) أحمد عبدالقادر العيدروس كتب بلغة الاردو (داستان حضرموت) السلطان صالح القعيطي كتب (رحلة إلى دوعن) وكذلك ما سجله عبدالقادر بافقيه عن رحلة السلطان عمر إلى حضرموت الداخل ، وقد منع مرض السلطان ثم موته لاحقا من طبع الكتاب ونشره في حيدر أباد.
ويناقش الفصل السابع قضية نشوء الطموحات السياسية للحضارمة وما كانوا يتطلعون إليه من رؤية بلادهم الحضرمية (القعيطي والكثيري) موحدة تحت دولة واحدة على طريق التقدم والاستقرار. كانت كل خطوة في هذا الاتجاه تواجه مقاومة شرسة من قبل أولئك الذين لم يستوعبوا منافعها وممن تخوفوا من فقدان حرياتهم وامتيازاتهم وحتى ممن تخوفوا من ضياع وسائلهم التقليدية في معيشتهم. وبما أن أعلى الأصوات التي كانت تنادي بالإصلاح انطلقت من حضارمة جنوب شرق آسيا ، فقد تسبب الصراع العنيد الذي جرى هناك بين العلويين (الارستقراطية الدينية) التواقين للحفاظ على مكانتهم الاجتماعية الموروثة وبين الإرشاديين (المشايخ وأبناء القبائل والآخرون) التواقين لتحدي و محو تلك المكانة في أية تسوية اجتماعية سياسية قادمة.. تسبب هذا الصراع المشار إليه في تثبيط مساعي الإصلاح وكتم نداءاته ومن ثم فشل الحوار الوطني .
وإنه من المؤسف له أن يتحمل آل الكاف بعض المسئولية في هذا الفشل، نتيجة لتعريضهم حيادية العالم الحجازي الطيب الساسي للشبهات . والطيب الساسي المذكور هو المبعوث المفوض لاستطلاع الرأي العام الحضرمي في مهاجرهم ما وراء البحار.
الحدث ذو الأهمية الخاصة الذي جرت الإشارة إليه في هذا الفصل، هو هدنة الخمس سنوات الشهيرة بين قبائل حضرموت، التي جرى تدشينها خلال الزيارة التي قام بها ممثل الحكومة البريطانية هارولد انجرامز الى حضرموت عامي -1936 1937 وقد سميت هذه الهدنة فيما بعد بصلح انجرامز.
تجدر الإشارة إلى أن التفكير في عقد هذه الهدنة جاء حصيلة لزيارة قام بها السلطان عمر بن عوض القعيطي إلى حضرموت الداخل عام 1934 . وكان وصول (انجرامز) إلى حضرموت إيذاناً بتبني البريطانيين تعزيز سلطة الدولة ولو تحت مبدأ الحد الأدنى من المسئولية المالية، وعبّد الطريق لعقد معاهدة الاستشارة وما تلاها من مظاهر التطويرالمتنوعة التي شرحتها المؤلفة في الفصل الثامن والتي شملت مجالات الإدارة والأمن والعدل والتعليم والصحة والزراعة والاقتصاد بشكل عام. مع التأكيد على الاعتماد الذاتي بما ينسجم والشعور الوطني .
ويناقش الفصل التاسع انعكاسات التغيرات التي طرأت بعد الحرب العالمية الثانية، بما فيها تلك التي حلّت بتجمعات المهاجرين الحضارمة في البلدان التي شارفت على تحقيق استقلالها؛ كالهند وجزر الهند الشرقية وإفريقيا. وعن بروز نخب جديدة منافسة لمصادر النفوذ التقليدية. هذا الفصل يعنى كذلك بالمسائل الحاسمة المنبثقة عن تلاشي الامبراطورية والانسحاب البريطاني المأمول، وتحقيق وحدة حضرموت أو الدخول في فيدرالية الجنوب العربي. تناولت المؤلفة هذه القضايا برؤية تتناسب عكسيا مع النظرية المسماة : نظرية روبنسون عن الامبريالية التعاضدية .
إذ إن المتعاضدين في هذه الحالة سيفقدون راعياً ويسقطون كضحية نهائية لنجاحهم في بناء الدولة. جانب من هذا النطاق يميل الى احتواء أحكام وآراء خلافية عرضة للجدل واخطاءات في تفاصيل الواقع على حقيقته، وبدون شك يجلب على نفسه مواجهة محاولات محددة بجدول زمني ضيق.
بعض مثل هذه المآزق التي يمكن تجنبها من خلال التعاون اللصيق مع مراقبين من أهل البلد الذين عايشوا المشهد التاريخي لحضرموت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانيه مثل المعمر المئوي (تجاوز عمره المائة عام) الشيخ عبدالله أحمد الناخبي (توفي مؤخراً رحمه الله) وقد كان جنديا وعالما ومستشاراً للدولة القعيطية ثم استقربه المقام في مدينة جدة.
ومع هذا كله ، يمكن لنا القول إن دراسة السيدة فريتاج هذه، تعد مساهمة كبيرة وفريدة تثري معارفنا التاريخية عن حضرموت والشتات الحضرمي في المهجر خلال القرن والنصف قرن السابقة ليوم الاستقلال.